في إحدى ليالي الشتاء الحالكة السواد ، كانت العاصفة شديدة والبرد يتهاطل فوق قمم الجبال فيمنع أشد الناس شجاعة من مغادرة مضاجعهم .
كنت مع أفراد أسرتي مجتمعين في قاعة الجلوس و قد أوقدنا نارا شرعنا نتدفاً على وميض لهيبها . حقا إن الأهم من كل شيء في هذه الدنيا ملكية بيت يؤوى إليه الانسان وبدون هذا المأوى يستحيل أن يعيش في أمن ودعة .
وبينما نحن في جو يسوده الانس والهناء الأسري ، إذ بطرق عنيف على الباب الخارجي يصم الآذان ويعكر صفو مزاجنا . هز كياننا الرعب و تجمدنا في أماكننا للحظات كتماثيل من حجر . قال أبي " خيرا إن شاء الله " .
نهض أبي مذعورا وقد أرهف السمع ليتبين مصدر الصوت وخطا نحو الباب خطوات متثاقلة مبسملا داعيا الله خيرا . فإذا بجارنا العم محمود أمامه . نظرنا إليه بتمعن فإذا فرائصه ترتعد و كان يرتعش ارتعاش القصبة في مهب الريح و يتصبب عرقا رغم برودة الطقس . قال متلعثما بصوت متهدج : " ابني ... ابني حامد . أسرع . سليم أجروك ساعدني ... » .
استفسرنا عن الأمر وفهمنا أن ابنه الوحيد على فراش المرض وحالته خطيرة بل يكاد يصبح في عداد الموتى . في بادئ الأمر ، تردد أبي في مساعدة الجار فالعاصفة يزيد عواءها في الخارج ولا سبيل للنجاة من خطرها ولكن أمي ألحت عليه وحثته متوسلة : " أرجوك يا زوجي ، لقد أوصانا الله بالجار و الجار للجار رحمة " . شجعته هذه الكلمات وزرعنا في نفسه ثقة عارمة فاستجاب في الإبان لطلب الجار الملتاع .
هرع أبي مسرعا و أخرج السيارة من المستودع و حملنا الابن حامدا إلى أقرب مركز صحي لمعالجته و نسينا جميعا في لحظة خلافاتنا مع جارنا محمود المسكين .
أدخلوا الابن الى غرفة العمليات المستعجلة و لا تسأل عن حال أمه التي تساقطت الدموع على خديها و الملتهبتين كشلال منهمر و راح كل جزء في بدنها ينشج و يهتز و توالت العبرات و الزفرات و أخذت تذرع الرواق جيئة و ذهابا و لسانها لا يتوقف عن الدعاء و التضرع إلى الله.
أما العم محمود فقد سيطر عليه الاضطراب و الفزع فكان يجلس على المقعد حينا و يلتصق بالجدار حينا آخر و قد أخذ منه الرعب مأخذا عظيما . و أحطنا به و في الهزيع الأخير من الليل ، خرج الدكتور من غرفة المريض فالتففنا حوله كما يحيط السوار بالمعصم و قال بأن الخطر زال تماما عن حامد فتنفسنا السعداء و تهللت الأصوات و تبادلت العائلتان العناق و التهاني .